إن مما ينبغي على المسلم معرفته ، ولا يليق به جهله ، ليتجنب الكثير من المزالق ، ويسلم من الوقوع في العثرات ، ويأمن التلوث بداء الشكوك والشبهات ، هو معرفةُ أنواع المسائل الشرعية ، وإدراكُ حكم كل نوع منها ، وما الذي يترتب عليها ، وتصور هذا الباب على وجه صحيح لاتزل معه قدمه ، ولايهفو به قلمه ، ولا يعثر فيه لسانه .
ومن ذلك أن المسائل الشرعية ، تنقسم إلى قسمين :
الأول منها : المسائل القطعية ، وهي المسائل التي أجمعت الأمة عليها ، واتفقت كلمتها فيها ، فليس لها فيها أكثرُ من قول واحد ، إما وجوب فلا يحل تركه ، وإما حرمة فلا يجوز فعله ، وإما استحباب فالأولى عمله ، وإما كراهة فالأولى تركه ، وإما إباحة فيستوي فعله وتركه .
وجل هذه المسائل محسومة بنص شرعي قطعي في دلالته ، من آية قرآنية كريمة ، أوحديث نبوي شريف ، وقد لا يكون فيها شيء من هذا ، فيكتفى حينئذ بإجماع الإمة واتفاق الأئمة ، الذي لا تجوز مخالفته أو الخروج عنه .
وهذ المسائل القطعية لا يحل لأحد أن يأتي باجتهاد يخالف فيه الإجماع السابق ، ويخدش به وحدة مذهبها المقطوع به ، فيسير في طريق غير طريقها ، ويسلك خلاف مسلكها ، فيصيبه ما توعده به ربه في قوله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) .
ومن الأمثلة على هذه الأمور القطعية ، التي لا يسوغ مخالفتها باجتهاد أو غيره ، وجوب الصلوات الخمس ، وعدد ركعاتها ، ووجوب صوم رمضان ، وأداء الزكاة ، وحج البيت الحرام ، وأداء الأمانة ، والصدق في الحديث ، وبر الوالدين ، وغض البصر عن الحرام ، وحرمة الوقوع في الزنا ، وشرب الخمر وبيعه ، وأكل الربا ، والرشوة بذلاً و أخذاً .
كل ذلك مما أجمعت الأمة عليه ، وليس لأحد مخالفتها ، ولا الاجتهاد والنظر فيها ، بما يخالف ما انعقد عليه الاجماع ، فمن فعل ذلك صار محل تهمة ، وموطن نقد ، وقوله ردّ عليه ، واجتهاده لا عذر له فيه ، والإنكار عليه واجب ، حيث خرج على الناس بشيء من الدين جديد خفي على من سبق من أهل العلم ، على مرّ العصور والأزمان ، قال صلى الله عليه وسلم : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ) .
القسم الثاني : المسائل الاجتهادية التي وقع فيها الخلاف بين أهل العلم ، لأسباب مشروعة معلومة ، والتي من أهمها الخلاف في ثبوت النص ، أو نسخه ، أو تخصيصه ، أو تقييده ، أو اختلاف أفهام العلماء في مدلول بعض نصوص الشريعة ، وهم في ذلك معذورون ، ولا يخرج حالهم عن أمرين ، إما مجتهد مصيب فله أجران ، أو مجتهد مخطئ فله أجر واحد ، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، فهذه المسائل لا إنكار فيها ولا تأثيم ، ولا لوم فيها ولا تعنيف ، ولا هجر ولا قطيعة ، بل كلٌ مجتهد معذور ، يعمل بما يراه حقاً وصواباً ، ويعذر أخاه فيما يراه خطأً .
ولاشك أن إدراك هذا الأمر يجنب الناس الكثير من الشقاق والخلاف ، ويدل على المواطن التي يسوغ فيها الإنكار والتي لا يسوغ فيها ذلك ، فلا يخبط المسلم خبط عشواء ، فينكر على مجتهد معذور ، ثم يسكت عن خارق للإجماع ، مخالف لاتفاق الأمة ، لا يجوز السكوت عليه ولا إقراره .